الحديث
عن السعادة ليس بالأمر الجديد، لكن إحساس السعادة نفسه هو إحساس متجدد، ويجد له في
كل مرة منفذاً يتسرب منه إلى النفس البشرية, كما أن أوجه السعادة مختلفة،
ومذاقاتها متنوعة، ومن الممكن أن يعيش كل إنسان تجربته معها بشكل مختلف عن الآخر،
حتى إن تشابهت الظروف، أو اتفقت الآراء حولها.
ومع
وجود هذا الفضاء الواسع الذي يستطيع الطامحون إلى السعادة أن يحلقوا فيه كيف وأين
شاءوا، إلا أنه يوجد أناس يبخلون على أنفسهم بها، ويستثقلون عناء البحث عنها، إما
جهلاً أو زهداً.
وأحياناً،
يعلّق بعض الناس سعادتهم على أمر ما، إن تم لهم سعدوا، وإن لم يتم تعسوا، دون أن
يشعروا أنهم يعطلون بذلك كل الأوجه الأخرى القائمة حولهم أو المحتملة للسعادة، فيقضون عمرهم بانتظار
إحساس مجهول، مع أنه أقرب إليهم من أنفاسهم لو كانوا يعلمون.
ويوجد
كثير من الناس يعرضون عن السعادة، وحين يرونها تقبل من طريق يتجهون نحو طريق آخر،
ربما لا يدركون ذلك، وربما لا يدركون أيضاً أنهم يضيقون على أنفسهم بأنفسهم ما
وسعه الله عليهم.. بدلاً من أن يسعوا لتوسيع ما ضاق لأسباب خارجة عن إرادتهم.. مثل
هؤلاء الناس نراهم كثيراً، ونشعر دائماً أن بينهم وبين الحياة ثأراً قديماً، فهم
ناقمون عليها طوال الوقت، ساخطون على الظروف، وعلى القدر، وعلى كل شيء.. ربما
كانوا فقط في حاجة لأن يفتشوا في داخلهم بتركيز أكثر.
وهناك
الكثير من الناس أيضاً يظنون أنهم يعيشون حياة سعيدة، لكنهم في لحظة ما يكتشفون
أنهم كانوا يعيشون وهم السعادة فقط، وأن السعادة بمعناها الحقيقي تقبع في مكان آخر
بعيد كل البعد عن المكان الذي يدورون فيه.
هذا
ينطبق كثيراً على من يربط السعادة بالمال مثلاً، وهو أمر ثبت خطؤه على مستوى
الواقع، إذ العلاقة ليست طردية بين هذين الطرفين، وغياب المال لا يعني غياب
السعادة، والحصول على المال ووفرته لا يعني بالضرورة حصول السعادة وتحققها, ولكن
هذا لا يمنع أن يجتمعا معاً، دون أن تكون هذه هي القاعدة، وما عداها شاذ عنها, إلا
أننا يمكن أن نربط السعادة بأشياء أخرى، كالصحة على سبيل المثال، فنزعم أن الشخص
المعافى أكثر قدرة على الإحساس بالسعادة من الشخص الذي يعاني من مشكلة صحية.
هذا
هو الواقع، وقد يكون هذا القول صحيحاً بنسبة كبيرة، لكن أيضاً هناك نماذج إنسانية
استطاعت أن تثبت بالفعل لا بالقول أن السعادة من صنع المرء لا من صنع ظروفه، وأن
أي عنصر خارج عن الذات لا يملك الحق في رسم ملامح أحاسيس أي إنسان، إلا إن منحه
الإنسان نفسه ذلك الحق.
ويمكننا
أن نتوقف عند هذه الجزئية فقط، ونزعم أن الإنسان الذي يعاني من مشكلة صحية جسيمة،
كأنواع الإعاقات المختلفة، مثل العمى، والصمم، والشلل، وما إلى ذلك، يستطيع أن
يعيش سعادته الخاصة، إذا استطاع أن يعرف نفسه، وأن يجدها بين زحام المشاعر
المضطربة التي تلازم من يعاني من هذه المشاكل.
الذي
يلفت النظر في هذا الأمر هو أن كثيراً من أصحاب الإنجازات المهمة، على المستوى
العلمي، والأدبي، والفني، وغير ذلك، كانوا بالفعل يعيشون في ظل ظروف صحية صعبة،
لكنها لم تقف حاجزاً يحول بينهم وبين أن يبدعوا ويقدموا ما قدموه للبشرية، فهل
كانت المعاناة في ذاتها هي سبب ذلك الإبداع وهو القول الذي يُردد دائماً، بما يوحي
بشبه اتفاق عليه, أو أن إحساسهم بوجود مساحة تمدهم بالسعادة الداخلية العميقة حتى
في ظل هذه الظروف الصحية الصعبة, هو السبب؟
يمكن
أن نتوقف عند شخص مثل بيتهوفن على سبيل المثال، الذي يبدو لي أنه كان قادراً على
أن يعيش سعادته الذاتية، على الرغم من إعاقته الجسدية، وإصابته بالصمم الذي حرمه
من الاستمتاع بنعمة الاستماع، ومع ذلك فقد أوجد بديله الخاص، الذي شعر فيه بلذة
السعادة.. فأبدع، ولو لم يكن يعيش سعادته تلك، لكانت البشرية كلها قد حُرمت من ذلك
الإرث الموسيقي الرائع الذي خلّفه.
ويمكننا
أن نستشهد بالكثير الكثير من الأسماء التي كانت لها معاناتها الصحية المختلفة،
لكنها استطاعت على الرغم من ذلك أن تتحرر من ذلك القيد الذي كان من الممكن أن
يربطها بالتعاسة ربطاً مزمناً، وأن توجد تلك المساحة التي تستطيع أن تجد نفسها من
خلالها، ومتى وجد الإنسان نفسه، أصبحت السعادة أمراً متحققاً بشكل تلقائي.
أخيراً: لا تنسوا أن للسعادة لذة
خاصة، وأنها موجودة في داخلنا، وأن الإنسان هو من يخرجها من نفسه و يصنعها بيديه.
0 تعليقات
أضف تعليق